مستقبل الجامعة وجامعة المستقبل 2/1
مع بداية كل موسم جديد، تعود الجامعة إلى واجهة الأحداث بكل تفاعلاتها النقابية و زخمها الجماهيري، متصدرة صفحات الجرائد و مختلف وسائل الإعلام، لتصبح حديث العام و الخاص لدى مسؤوليها وطلبتها و أولياء أمورهم .
بيد أن هذه الفرص على أهميتها، لا تتعدى المعالجة السطحية عبر الاستقصاءات الإخبارية المجردة ، دون الغوص في نقاشات أعمق حول وضع الجامعة، على نحو ما هو مناط بها و مرجو منها، كمنارة معرفة و مصدر إشعاع ثقافي و حضاري ضمن مؤسسات المجتمع .
لقد شهدت الجامعة الجزائرية طيلة عقود من الزمن تطورات هائلة، من خلال ما باشرته من جملة إصلاحات منهجية عديدة، منذ تشكل وزارتها الأولى على يد المرحوم: محمد الصديق بن يحي صائفة 1970، واستطاعت أن تؤسس منظومة تعليم عالي محترمة، بالنظر لما تركه الاستدمار من مخلفات وتراكمات سلبية على المستوى الثقافي و الاجتماعي، طيلة قرن و ثلث من ممارسات التجهيل و الحرمان من الحق في تحصيل العلم و اكتساب المعرفة، زيادة على تعميم الفقر والحاجة المانعة لأي محاولة في تخطي حواجز الجهل المبرمج .
لكن الجامعة الجزائرية، و بفعل السياسة الوطنية الرشيدة في تبني ديمقراطية التعليم و مجانيته، ثم بفضل كل الجهود الصادقة لأبنائها، تكللت مشاريعها بالنجاح، وتمكنت من تشييد جامعة الاستقلال ، و في سنوات قليلة صار خريجوها يؤُمّون كل جامعات العالم، موشّحين بأغلى الشهادات و مرصّعين بأعلى الدرجات، تحذوهم الهمة العالية و الإرادة الفولاذية في التعبير عن رغبة شعب ثائر في سبيل الانعتاق العلمي و التكنولوجي، بعدما استعاد السيادة على أرضه و كرامته بثورة خالدة، قدم فيها مليونا ونصف المليون من الشهداء
غداة الاستقلال، كانت الجامعة الجزائرية الموروثة عن الاستدمار، تحصي ما لا يزيد عن 500 طالب حسب رواية روادها إبان الخمسينات، طبعا إذا استثنينا طلبة المشرق و عددهم كان قليلا، وها هي تستعد في آفاق 2015، ليضاهي تعداد طلبتها عدد شهدائها الميامين، فأي فخر، أن نقدم مليونا ونصف مليون طالب جامعي، جنودا في معركة جديدة على عتبات الألفية الثالثة، عنوانها : ثورة الاتصال و المعلوماتية، اقتصاد المعرفة، التنمية المستدامة و الحكم الراشد .
لقد أضحت الجزائر اليوم – وبعدما تفرّق ذات عقود أبناؤها على الأقطار و الأمصار استجداءً للعلم – قِبلةً لكل الطلبة من العرب الأشقاء و الأفارقة الأصدقاء، يتوزعون عبر أكثر من مائة مؤسسة جامعية .
لا شك أن هذا الرصيد الزاخر الذي بلغته الجامعة الجزائرية، هو مصدر فخر لكل جزائري معتز بوطنه، ولكن المجتمعات البشرية تشهد تحولات رهيبة، في عالم موصوف بالقرية الصغيرة، يتم فيه اكتساب و تحيين المعلومة المعرفية كل دقيقة، بل وفي كل ثانية يتم تسجيل براءات اختراع جديدة ، مما يجعل من جهود الإصلاح و التحديث حتمية لا مناص منها و شرط أساسي لمواكبة العالم المتقدم.
بهذا الصدد، فإنه بات من الضروري - كمقدمات منهجية لأية إصلاحات مرتقبة – أن نفتح بمنتهى الشجاعة و الأمانة و المسؤولية باب النقاش الجاد في وضع الجامعة الجزائرية وفق ما يفترض لها كمؤسسة وطنية و ما هو مأمول منها.
طبعا لا يمكن في هذه المقالة أن نُلِم بكل انشغالات الجامعة، بما تمثله من تراكمات و تعقيدات، لكن سنحاول الوقوف عند أهم الملفات الكبرى التي باتت ترسم معالم الصورة المبرزة للجامعة في وضعيتها الشاملة .
أولا : إصلاحات نوعية ولكنها متعثرة
لاشك أن الإصلاح شكّل مطلبا تاريخيا و موضوعيا في حالة الجامعة الجزائرية، ما فََََتِئت كل الأطراف المعنية تستعجل مُباشَرتَه على نحو يمكّنها من تجاوز مظاهر التخلف العلمي و الترهّل البيداغوجي،و يتقدم بنا خطوات إلى الأمام على مصاف الجامعات العريقة في العالم .
لذا، فقد حاولت الوزارة الوصية منذ سنوات، الاستجابة لهذا الإلحاح، انطلاقا من قناعات مشتركة بأهميته و أولويته في مسعى تحديث الجامعة و الرقي بها إلى مستوى الطموحات المشروعة للمجتمع وتطلعات الدولة المنشودة.
و لعل التطبيقات الأبرز ضمن مشروع الإصلاح الجامعي في مرحلته الأخيرة،هو تبني نظام( ل . م . د ) منذ سبع سنوات، و المدارس التحضيرية التي تدخل عامها الثاني بحلول موسم 2010/2011 .
و إذا كان أغلب المراقبين و جل الشركاء يعتبرون التجربتين غير قابلتين للاعتراض على المستوى النظري، باعتبارهما مثّلا نموذجا عالميا حقق نجاحا باهرا، و صارت معظم جامعات العالم تأخذ بنمطيهما.
لكن – ومن الناحية المبدئية – يجب أن نسجل بأن نقل التجارب في قوالب جاهزة غير مأمون النتائج ، لا سيما في حال تجاهل خصوصية البيئة الاجتماعية والثقافية و السياسية، ثم عدم تقدير الإمكانيات و الاحتياجات الملازمة لمثل هذه المناهج البيداغوجية .
أما على المستوى الميداني ، فإن هذين النظامين لا يزالا متعثرين، و تعترضهما عقبات شديدة، لا نرتقب زوالها في المدى المنظور على الأقل .
لغير المطلّعين على طبيعة هذا النظام الأنغلوساكسوني، فإننا نوضح فلسفته القائمة على إشراك الطالب بصفة أساسية في عملية التحصيل العلمي و التكوين المعرفي، بدل أن يكون طرفا مستهلكا عبر التلقين المباشر، و عليه يتم تقليص الحجم الساعي في ميدان المحاضرات و الدروس لصالح البحث الشخصي، مرفوقا بالأعمال التطبيقية والتربصات الميدانية، إضافة إلى كونه نظاما متحركا و يتسم بالمرونة .
إن مثل هذه المقومات الضرورية في نجاح نظام ( ل . م . د )، تتطلب بيئة ملائمة ثم إمكانات هائلة على مستوى الوسائل والأدوات البيداغوجية، كمراكز الإعلام الآلي وشبكات الأنترنت، المكتبات الحديثة، المرافقة البيداغوجية، و الشركاء الاقتصاديين و الصناعيين .... الخ .
لكن إذا عدنا إلى حقيقة الواقع ، نجد أن توفر مثل هذه الشروط في الظروف الحالية، يكاد يكون منعدما بنسب متفاوتة في أغلب الجامعات، و بالمحصلة، فإن هذه الدفعات التي تتخرج منذ ثلاث سنوات تمنح شهادات جوفاء، فلا هي تكونت على الطريقة الكلاسيكية برغم عيوبها، و لاهي مستفيدة من امتيازات النظام الجديد، بل تمثل ضحايا التجربة الانتقالية ‼.
زيادة على ما أسلفنا، فإن هذا النظام قد عرف انطلاقة عرجاء منذ بداية مساره، مما أسهم في تفاقم تعقيدات تطبيقه على أرض الواقع .
و أولى الأخطاء المسجلة في هذا الجانب، هو صدور المشروع بشكل مفاجئ و فوقي، حيث لا نزال نذكر معالي وزير التعليم العالي و البحث العلمي، و هو يكشف عشية إعلان نتائج البكالوريا مطلع جويلية 2004، عن اعتماد نظام اختياري جديد بالجامعة الجزائرية، بدءً من السنة المرتقبة، أي موسم 2004 / 2005 ، بمعنى أن الفارق الزمني بين إعلان المشروع و تجسيده كان شهرين على أقصى تقدير‼ .
و هنا بدأت التخوفات و التكهنات و التأويلات بشأن نظام بدا في غاية الغموض، حتى أن البعض كان يسأل عن مستقبل الشهادة و مصيرها، في حين حاولت الوزارة أن تضع أحلام الدكتوراه في متناول كل منتسب لهذا النظام‼ .
لكن لم تمر شهور طويلة، حتى اكتشفت الوصاية ومعها إدارات الجامعة، أنها وقعت في مطبّات جسيمة، عندما تجاوزت شركاءها في الميدان و تعمّدت الانفراد بالبطولة، مع ما رافق الموضوع من ضعف إعلامي و توجيهي فضيع، ترك الطلبة و أولياءهم في حيرة بالغة من أمرهم‼ .
و لأن كل المعاهد و الأقسام – باعتبارها الأنوية القاعدية لتجسيد البرامج الإصلاحية – لم تكن مهيأة للاندماج في هذا النظام، فقد فشلت فشلا ذريعا في استيعاب التحولات الحاصلة ومتطلبات الإصلاح الجديد، بل إنها عجزت عن التحكم في طرق التقييم و الانتقال، لتَقع في حالات من التناقض و التباين الصارخ من قسم إلى آخر داخل نفس الجامعة ، وفيما بين الجامعات، فقد تعددت الاجتهادات و التفسيرات لمحتويات النصوص البيداغوجية و التنظيمية ‼.
أما عن بقية الوسائل المطلوبة، كتعميم الأنترنت و توسيعها، و إبرام عقود الشراكة مع المحيط الاقتصادي و الصناعي، فإن الأمر مخجل للغاية، ولكُم أن تتخيلوا – على سبيل المثال للحصر – أن قطبا بحجم جامعة الجزائر سابقا، و هي تحتضن النظام من سنوات عديدة، لا تحتوي على قاعة إعلام آلي واحدة موجهة لفائدة هؤلاء الطلبة، فهل أصبح المطلوب منهم التوجه إلى المقاهي لإعداد البحوث و المذكرات ‼.
ناهيك عن العلاقة مع الشركاء الاقتصاديين و الصناعيين، فهذا مطمح لا يزال تفصلنا عنه عقود ، بفعل ضعف جامعاتنا و ضمور الثقافة و الاستعداد لدى الطرف الآخر في بناء هكذا جسور، يمكن أن تُثمر تكوينا علميا رصينا قائما على المزاوجة بين النظري و التطبيقي .
إضافة إلى تلك المساوئ التي رافقت تطبيق النظام، فإن هذا الأخير قد عانى من التأخر الفادح في إصدار النصوص البيداغوجيية و التنظيمية المحددة لمعايير التقييم و الانتقال ضمن وبين أطواره، و قيمة الشهادة المنبثقة عنه، بل إن مقوّمًا جوهريا ضمن تطبيقاته كالأستاذ الوصي ( المُرافِق ) على أهميته و خطورة دوره التكويني و الاستشاري، فإنه لم يحضى بمنشور يحدد واجباته و حقوقه إلا بعد ست سنوات من دخول النظام حيز التطبيق، و مع ذلك لم يُُحلّ الإشكال عمليا، لنقص عويص في إمكانيات الاستيعاب و التأطير‼ .
إذا كان الحال كذلك، ألم يكن جديرا بوزارتنا الموقّرة – مع تقديرنا لجهدها المعتبر – أن تأخذ الوقت الكافي بغية إرساء أرضية صلبة لمشروع الإصلاح، ترتكز على استشارة أطراف الأسرة الجامعية و إشراك فعاليات المجتمع بمختلف شرائحه، لتحضير مشروع ناضج و متكامل، قابلا للانجاز، ويتمتع بفرص نجاح حقيقية، على اعتبار أنه ثمرة تفكير و جهد جماعي، حتى إذا دخل مجال التنفيذ، كان الجميع شاعرا بمسؤولية المساهمة الفعالة في إحقاقه، كونه يمثل شريكا هاما في بلورة هذا القرار، ثم متحفزا ومستوعبا لمقتضيات الإصلاح و التجديد .
لماذا لم نقتدي على الأقل بدولة تونس الشقيقة، حيث فتحت نقاشا عاما استمر خمس سنوات كاملة حول ماهية ومستلزمات هذا النظام، و ما يمكن أن يبرز في طريقه من عقبات، لتعلن عن تبنيه في الموسم الموالي – بعد ما استوى على سوقه – عبر مرسوم رئاسي .
أود التذكير، أن كل ما ورد من مؤاخذات بالغة و عيوب فجّة على مستوى القرار و التطبيق لهذا النظام، دون التطرق لكثير من التفاصيل التي لا يمكن حصرها في هذا المقام، قد ضمّنتْْها الوزارة الوصية في تقرير رسمي قُدّم أمام رئيس الجمهورية، أثناء انعقاد الجلسات الوطنية للتعليم العالي يومي 19 . 20/05/ 2008 بنادي الصنوبر، لكن ما تم استدراكه حتى الآن يبقى ثانويا مقابل حجم النقائص المستمرة.
أعتقد أن الفرصة لا تزال مواتية لتقويم الإصلاح وبلوغ القفزة المرجوة، بشرط تكريس مبدأ الشراكة الحقيقية، واعتماد آليات التدرج المرحلي، بعد الوقوف الفعلي على تقييم واقعي، بناءً على الأسس النظرية و معطيات الميدان، فيما يتعلق بالإمكانيات المطلوبة و الممكنة على المديين القريب و المتوسط .
كما أنه من الواجب، أن يخضع مشروع الإصلاح الجامعي إلى رؤية علمية دقيقة، و مقاربات بيداغوجية محضة، تستفيد من التجارب الإنسانية، مع مراعاتها للخصوصية المحلية، بعد تشخيصات معمقة لمرتكزات القوة ومكامن الضعف والقصور، و ليس مجرد تقليد لموضات قد تبدو مغرية، أو رغبة في تسجيل أهداف فوق ملاعب السياسة، على حساب مصير الأجيال ومستقبل الوطن .
إذا كان ذلك هو واقع نظام ( ل . م . د )، فلا يبدو أن مستقبل المدارس التحضيرية سيكون أحسن حالا، بالنظر إلى البدايات غير المريحة، فأسراب المهاجرين منها تُلاحق تعداد الطامحين في الولوج إليها ‼.
و حسب ما تناهى إلينا من أصداء، زيادة على ما نحوزه من تقارير ومعلومات، فإن نسبة الرسوب و الإخفاق عالية بهذه المدارس، و السبب الرئيس حسب تحليلاتهم، هو عائق اللغة و كثافة البرامج، و هنا يُطرح سؤال وجيه للقائمين على هذا المشروع :
إذا كانت وظيفة المدارس التحضيرية هو إعداد نخبة علمية متقدمة في ميدان التكنولوجيا والإدارة الاقتصادية، فهل يعد هذا مُصوّغا لفرنستها؟. أم أن الفرنسية على تخلفها العلمي وتراجعها العالمي، قد أضحت عندنا مفتاحا للعبور إلى عالم النخبة‼.
إذا سلمنا بأن تلقين العلوم التكنولوجية بالفرنسية قابلا للأخذ والرد في الحالة الجزائرية، فلماذا يُصرّ هؤلاء يا تُرى، على تدريس الاقتصاد المعرّب منذ السبعينات باللغة الفرنسية.
أعتقد أنهم يَرقُبون المستقبل بعيون ثاقبة، لكنها أخطأت التقدير وجانَبت الصواب، فلغة العلم والانفتاح على العالم في عصرنا الحالي هي اللغة الانجليزية بحكم الأمر الواقع.
إنني لا أرى في هذا القرار المشبوه إلا غطاءً لعودة اللغة الفرنسية إلى ميدان التعليم في الجزائر عبر بوابة الإصلاح المزعوم‼.
وعليه، فقد وجب أن تثير هذه المدارس اهتمام كل الفعاليات الاجتماعية والسياسية والإعلامية، وقبلهم شركاء القطاع، ممّن يُنافحون عن تعريب الجامعة الجزائرية، لأن موضوع الفرنسة لا يمكن تجاوزه أو إبداء حسن الظن إزاءه بأي شكل من الأشكال، فالأمر هنا يتعلق بمدارس نخبةٍ تتهيأُ لإدارة مقاليد البلاد بعد سنوات قليلة، فلماذا يُراد عُنوةً غرس نزعة الارتباط لديها بالمستعمر القديم، رغم ما نتوفر عليه من طاقات علمية وكوادر تعليمية معرّبة في هذا الاختصاص كما في سواه، أم أن حال الجزائر يشبِِِه كثيرا من المستعمرات الإفريقية في أدغال القارة السمراء، قد اكتسبت هويتها الثقافية مع قدوم الاستدمار الحديث للمنطقة، مُحرِزة بذلك لغةً رسمية دُوّنت في دساتيرها باسم اللغة الفرنسية‼.
إن نجاح هذه المدارس- إن قدّر لها ذلك- مرهون بعدم التسرع في توسيعها و تعميم انتشارها، أي بمعنى التدرج الواقعي الذي يوازن بين الاحتياجات الملحّة من جهة و الإمكانات المتاحة من جهة أخرى .
كما أن تحصيل العلم لأي طالب باللغة الأم لديه، هو شرط أساسي لتفوقه العلمي ونفوذه في أقطار المعرفة المتجددة، وهذه مسلّمة بديهية تُثبّتها كل العلوم التربوية، ولا يُنكرها إلا جاحد مُكابر.
أضف على ما تقدم، أنْ تتهيأ و تتكاتف جميع الشروط الاجتماعية و البيداغوجية، فلا يُعقل في بلد بحجم الجزائر الذي ترصد فيه الدولة ميزانيات فائقة للإنفاق على التعليم، أن تَدرُس نخبة طلبتها في مجمّع، و تقطُن مركزا ثانيا، في ما تنتقل إلى مكان ثالث لأخذ وجبة غداء أو عشاء، مُنهيةًً بذلك ثلث يومها على متن الحافلات في زحمة الطرقات العامة ‼.
ثانيا : التكوين البيداغوجي و التحصيل العلمي
لقد حسمت الجامعة الجزائرية مؤقتا و نظريا معركة الكمّ لصالحها، إذ أصبحت تتوفر على جامعة أو مركز جامعي بكل ولاية تقريبا، زيادة على عدد هائل من المعاهد الوطنية و المدارس المتخصصة ، و أكثر من مليون طالب تمنحهم فرصَ التعليم و التكفل الاجتماعي .
لكن السؤال الذي لا نملك الشجاعة على طرحه في مقابلة هذا التحدي، هو المستوى الحقيقي و قيمة الشهادات التي يتباهى بها أغلبنا .
طبعا لسنا في هذا السياق، نتجّه إلى القدح في عقول الناس أو الطعن في معارفهم، كما لا ننتقص من قيمة ما بذلوه من جهود مضنية، سعيًا وراء شهادة مستحقّة وجديرةٍ بكل أصحابها .
لكن نود أن نقدّر معا، بمنتهى الموضوعية و التجرّد، مدى مطابقة الألقاب العلمية التي نحُوزها لِكمّ المعرفة و الثقافة التخصُصية – فضلا عن العامة- التي يُفتَرض أن نتشبّّع بها‼ .
و هنا أجيب نيابة عن كل المترددين، أنّ الكثير من شهاداتنا لا تعكس حقيقة ما هو مطلوب‼ .
الأكيد أن الطالب ليس وحده المسؤول في أسباب هذا التقهقر و الانحطاط الذي يلازم جامعتنا منذ سنوات، رغم ما يترتب عليه من تبعات، لكن البيئة الاجتماعية و الثقافية و مستوى الإدارة الجامعية و إمكانيات التعليم أحيانا ، هي التي تضافرت لتنتج هزلاً فظيعا في مردودية التكوين العلمي .
ألم يَعُد همّ الطالب أن ينتقل من سنة إلى أخرى بأي طريقة كانت، وهذا بناءً على ذهنية المجتمع الذي أصبح يرى في الشهادة الجامعية جسرا مريحا لرغيف خبز ميسورٍ ليس إلاّ، بدل أن تكون الجامعة نافذة على العالم الآخر في ماضيه و حاضره و مستقبله بكل ما يحمله ذلك من معاني و مقتضيات ‼.
لقد صادفتُ – كما حصل للكثير منكم دون شك – خريجي جامعات بالمئات لا يُحسنون فن تحرير رسالة إدارية أو طلب عمل ‼.
أما مظاهر الحياة الجامعية اليومية باستثناء بعض المعاهد و الكليات، فلا شيء فيها يوحي بطلب جاد للعلم، مدرجات شبه فارغة، مكتبات مهجورة، مذكرات مستنسخة و مكررة، علامات جد متدنية،انتقال عبر الامتحانات الشاملة والاستدراكية والإنقاذ، لقاءات ثنائية و جماعية، في مقابل طوابير لا تنتهي أمام أجهزة التصوير و الطباعة خلال مواسم الامتحانات‼
تصوروا أن بعض اختبارات الالتحاق بالأقسام العليا، تجري في شكل مسابقات و ليس امتحان، بمعنى أنه يمكنك أن تحصل على معدل 5/20 و ينتهي بك المطاف ناجحا، إذا كان ترتيبك العام ضمن الأوائل ممن يستوعبهم عدد المناصب المفتوحة ‼.
الإشكال لا يُطرح في المبدأ الذي قد يكون له ما يبرره، لكن يكمن في نتائجه، فمن المسؤول عن هذا الواقع، تدني المستوى إلى هذا الحد، أم منطق المناهج التعجيزية للاختبارات التي يجتازها طلبتنا.
وفي كلتا الحالتين، فالأمر غير قابل للتبرير تماما، بل ومثير للقرف والقلق والاستهجان‼.
لهذه الأسباب وغيرها كثير، يواجه طلبتنا عند مزاولتهم لعالم الشغل مصاعب جمة في التكيف مع الوظيفة المهنية، و خاصة في مجال التقنيات، لأنهم لم يأخذوا نصيبَهم من التكوين التطبيقي ، أما كبريات الشركات الوطنية و الأجنبية فنادرا ما يحضى أحدٌ فيها بمنصب عمل‼.
إن هذا الضعف الرهيب في مستويات التحصيل العلمي، هو نتاج طبيعي و محصلة واقعية لمنظومة تأطير قاصرة، فالجزائر لا تزال بعيدة عن المؤشرات المعتمدة دوليا في معدلات التأطير كما و نوعا، فقد تجد في مهنة التدريس الجامعي كل أصناف الشهادات، فمن يكوﱢن من؟. ربما تشهد هذه الظاهرة تراجعا سنويا ولكنها لا تزال قائمة‼ .
عندما تم افتتاح المركز الجامعي بوادي سوف على غرار كثير من المراكز، ما يفوق نصف أساتذته كانوا من طور التعليم الثانوي و سلك القضاء و المحاماة و المالية ‼.
إذا كنا لا نملك مؤهلات بيداغوجية، فلماذا نُصر على تشييد ثانويات جديدة بلافتات جامعية، أم أن ثقافة الدشرة و الدوار قد استحكمت عندنا في منطق القرار، مع أن وادي سوف بالنظر إلى حاجتها و إمكاناتها أحق بالجامعة من غيرها، لو كان ثمة نظام تحفيز عادل ‼.
يجب أن يُقوﱠم التصور الخاطئ في كون الشهادة وسيلة للارتزاق كيف ما كانت، و يحل محلها اعتبار هذا الشرف هدفا مرجوا في ذاته ابتداءً، من أجل العلم و المعرفة، وبناء الشخصية المتكاملة و المتوازنة الفعالة، كما أن الدولة يتعين في حقها تجنيد كل قدراتها من أجل تكوين أمثل و أكثر نجاعة، بدل أن تحصُر همّها في تضخيم أعداد الجامعيين لاعتبارات اجتماعية و ربما سياسوية أحيانا، على حساب مصداقية الجامعة و قيمتها الحضارية فضلا عن صمعتها الخارجية أمام العالم .