وبعد الجمعة دخل النبي المدينة _ ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول ، ويعبر عنها بالمدينة مختصرا_ وكان يوماً تاريخياً أغر ، فقد كانت البيوت والسكك ترتج بأصوات التحميد والتقديس ، وكانت بنات الأنصار تتغنى بهذه الأبيات فرحاً وسروراً :
أشرق البدر علينا
وجب الشكر علينا
أيها المبعوث فينا
من ثنيات الوداع
ما دعا لله داع
جئت بالأمر المطاع
والأنصار إن لم يكونوا أصحاب ثروات طائلة إلا أن كل واحد منهم كان يتمنى أن ينزل الرسول عليه . فكان لا يمر من دور الأنصار إلا أخذوا خطام راحلته : هلم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة ، فكان يقول لهم : خلوا سبيلها فإنها مأمورة ، فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع المسجد النبوي اليوم فبركت ، ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلاً ، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول ، فنزل عنها ، وذلك في بني النجار _ أخواله _ وكان من توفيق الله لها ، فإنه أحب أن ينزل على أخواله يكرمهم بذلك ، فجعل الناس يكلمون رسول الله في النزول عليهم ، وبادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحله فأدخله بيته ، فجعل رسول الله يقول : المرء مع رحله ، وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته ، وكانت عنده .
وفي رواية أنس عند البخاري ، قال نبي الله : أي بيوت أهلنا أقرب ؟ فقال أبو أيوب : أنا يا رسول الله ، هذه داري ، وهذا بابي . قال : فانطلق فهيء لنا مقيلاً ، قال : قوما على بركة الله .
وبعد أيام وصلت إليه زوجته سودة ، وبنتاه فاطمة وأم كلثوم ، وأسامة بن زيد ، وأم أيمن ، وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر ومنهم عائشة ، وبقيت زينب عند أبي العاص ، لم يمكنها الخروج حتى هاجرت بعد بدر .
قالت عائشة : لما قدم رسول الله المدينة وعك أبو بكر وبلال ، فدخلت عليهما فقلت : يا أبه كيف تجدك ، ويا بلال كيف تجدك ؟ قالت : فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول :
كل امرئ مصبّح في أهله
والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته ويقول :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
وهل أردن يوماً مياه مجنة
بواد وحولي اذخر وجليل
وهل يَبدُوَن لي شامة وطفيل
قالت عائشة : فجئت رسول الله فأخبرته ، فقال : اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد حباً ، وصححها ، وبارك في صاعها ومدها ، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة .
إلى هنا انتهى قسم من حياته ، وتم دور الدعوة الإسلامية ، وهو الدور المكي .