التلميذ يحمل بين جوانحه قلباً محباً لدين الله ولدعوته ، قلباً لا يرضى بالدون ويسعى للارتقاء ، همه وهدفه أن يترك أثراً في هذه الحياة يزيد به رصيد حسناته حتى بعد مماته ، ولكنه عاش في بيئة مثبطة محبطة قتلت في نفسه كل رغبة في الارتقاء أو كادت ، كان يؤمن بما قاله أحد العلماء : " أن الشجرة إذا نبتت بنفسها من غير غارس فإنها تورق ولكن لا تثمر كذلك من لم يكن له أستاذ " لم يجد يد الأستاذ المساندة وقلبه المحب الناصح
، بحث كثيراً فيمن حوله فما وجد سوى مربين على خير وصلاح ولكنهم لا يحملون مثل قلبه الطموح وهمته العالية بل هم قانعون بما هم فيه وما هو فيه ، مرت سنوات وسنوات وهو يحاول وحده دون أن يصل إلى مبتغاه ، فالمرء بنفسه قليل وجهده ضعيف ، كانت الأيام وهي تمر به كأنما تخنقه بل تحرقه ، شعر بأن العمر مضى ، بدأت همته تفتر و عزيمته تخور ، أوشكت جذوة الأمل أن تنطفئ في قلبه ، أوشك أن يستسلم للأمر الواقع ، وإذا بلطف اللطيف وعنايته تتداركه فقد دعي لحضور محاضرة لأحد الأساتذة ، جلس بين الحضور يسمع الأستاذ بقلبه وروحه ووجدانه يتلقف كلماته تلقف الظمآن الذي أوشك على الهلاك للماء الذي سيرويه ويحييه ، تلقف الأرض المجدبة للغيث الذي يجعلها تزهر وتثمر ، كان يتمنى ألا تنتهي المحاضرة ، ولكنها انتهت ، استطاع بصعوبة أن يجد لنفسه موضع قدم بين حشود المهنئين للأستاذ بعد المحاضرة ، وتمكن من تبادل بضع كلمات قليلة معه ، تمكن خلالها من أخذ موعد لمقابلة الأستاذ الذي سيكون على سفر بعد أيام قلائل ، وفي اللقاء حدث الأستاذ بمكنونات نفسه وأهدافه وطموحاته وحدثه عن البيئة المثبطة المحبطة و عن العمر الذي أو شك أن يمضي دون تحقيق هدفه ، فوجد من الأستاذ القلب المحب الراغب في نفعه ونصحه ومساندته حتى يحقق أهدافه وسمع منه أعذب وأروع الكلام ، شعر بروح الأمل والتفاؤل والثقة بالنفس تسري في قلبه من جديد ... وضع له الأستاذ خطة عمل وسافر للبلد التي يعمل بها ، تواعدا على المتابعة من خلال المراسلة ، اجتهد التلميذ كثيراً وبذل كل ما في وسعه في تنفيذ أوامر وتكليفات الأستاذ وأثبت له أنه من أرباب الأفعال لا من أرباب الأقوال فحظي بثقة أستاذه . ولكن في لحظة ضعف تمكن الشيطان منه يخذله وييئسه ويوسوس له قائلاً : أبعد هذا العمر مازلت تخطو الخطوات الأولى لقد فات الوقت لقد مضى العمر لقد تأخرت كثيراً أنى لك أن تصل لمبتغاك ؟!! كتب لأستاذه رسالة تحمل هذا المعنى وفيها من الحزن والأسى مافيها ، فرد عليه الأستاذ قائلاً : تلميذي صاحب الهمة العالية والنفس الأبية : إنه لتمر بالقلب أوقات يضيق فيها ويغتم ويحزن وينكسر وهذا أمر يحدث لكل من يريد أن يرتقي إلى المعالي ، إنها سحابة صيف تغطي سماء الهمة والأمل والعمل ولكنها سرعان ما تنقشع وتزول بإذن الله ، فاستعذ بالله من الشيطان والجأ إلى سيدك ومولاك ودع عنك هذا الحزن والأسى فالله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون . تلميذي النابه : قلت في رسالتك : لقد مضى العمر .. فأي عمر مضى ؟!! .. وهل العمر بعداد السنوات ؟!! إنما العمر بعداد الانجازات والعطاءات . لم الحزن والأسى ؟ ألم تقرأ قول ابن عطاء الله السكندري : " لا يكن تأخر أمد العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجبا ليأسك..فهو قد ضمن لك الإجابة في ما يختاره لك لا فيما تختاره لنفسك في الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد " فالزمن جزء من العلاج ومرور السنوات يعني تراكم التجارب وزيادة الوعي ورسوخ العلم و نضوج العقل والحكمة .. ومن قال أن هناك عمر محدد للنبوغ والنجاح إذا تجاوزناه فقد فاتنا كل شئ ، فلقد بدأ الكثير من العلماء رحلة طلب العلم متأخرين منهم سلطان العلماء العز بن عبد السلام ، وأنت تملك قدرات فكرية وروحية عالية فاعمل واجتهد .. فلا لليأس والاحباط ونعم للأمل والعمل فرد عليه التلميذ قائلا: أستاذي الكريم : يقول الله تعالى : (( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون )) فالحمد لله الذي لا يمكن الشيطان من قلوب عباده وإنما يتداركهم برحمته ولطفه ويرسل لهم رسائل ربانية تعيدهم إلى جادة الصواب ، وتعيد قلوبهم أرقي مما كانت قبل وسوسة الشيطان ، وأحمد الله أن رزقني بأستاذ مثلك ينصحني ويقومني ويأخذ بيدي إن عثرت أو زللت . أستاذي الفاضل : ما ورد في رسالتي من إشارة إلى مضي العمر ما هو إلا دلالة على شعورين يتنازعان قلبي ، شعور بسنوات مضت كنت أحب أن أراها عامرة بالإنجاز وشعور بدنو الأجل فأخاف ألا أتمكن من تحقيق عمل عظيم يقربني إلى ربي . وقد من الله علي بمعنى استقر في نفسي قبل وصول رسالتكم الكريمة بقليل وهو أني تساءلت : لماذا نريد أن نحقق إنجاز في هذه الحياة ؟ هل ليقال ما شاء الله متحدث مفوه أو كاتب بارع أو .. أو .. من المؤكد أن المؤمن سيقول : لا .. بل من أجل الله ورضوانه وقربه .. إذاً فليعلم المؤمن أن الإنجاز في ميزان الله لا يقاس بأعمال الجوارح وإنما بأعمال القلوب ، قال ذلك ابن القيم : " أعمال الجوارح تضاعف إلى حد معلوم محسوب أما أعمال القلوب فلا ينتهي تضعيفها " إذاً لمَ نبكى على أيام مضت لم نحقق فيها ما نصبو إليه مع اجتهادنا وعدم تقصيرنا ؟!!.. ألم يسبق درهم مائة ألف ؟ فقد نكون لم نحقق الكثير بمقاييس البشر و لكن الكريم سبحانه سيضاعف لعباده القليل الذي تمكنوا من تحقيقه طالما كانت النوايا خالصة .. وقد يمن الله علينا ببركة في العمر نرزق فيها بعمل يبلغنا به الكريم صحبة الصالحين في أعالي الفردوس . وبينما كنت أقلب أوراقي يا أستاذي وجدت كلمات ذكرها ابن القيم في المدارج أرسلها ربي لي في هذا الوقت بالذات ليطمئن بها قلبي وهي : ذكر ابن أبى الدنيا عن بشر بن بشار المجاشعى وكان من العلماء : قال : قلت لعابد : أوصنى قال: "ألق نفسك مع القدر حيث ألقاك فهو أحرى أن يفرغ قلبك ويقلل همك وإياك أن تسخط فيحل بك السخط وأنت فى غفلة لا تشعر به فيلقيك مع الذين سخط الله عليهم " ويقول :الرضا يفرغ القلب لله ، والسخط يفرغ القلب من الله. ويقول : قيمة العبد همته وإرادته ويقول : من دعاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله : " اللهم ارضني بقضائك وبارك لى فى قدرك حتى لا أحب تعجيل شئ أخرته ولا تأخير شئ عجلته " فلما قرأت هذه المعاني استراحت نفسي واطمئن قلبي.. سأجتهد يا أستاذي وسأجتاز المنحنى ولن ألتفت وراءى ومن لم يذل النفس في طلب العلا ... يسيراً يعش دهراً طويلاً أخاذل وسأستعين بالكريم وإذا صح عون الخالق المرء لم يجد ... عسيراً من الأمور إلا ميسرا